إيران بين الرد والانتقام- حسابات المصداقية وتحديات النفوذ.

المؤلف: ياسر سعد الدين10.08.2025
إيران بين الرد والانتقام- حسابات المصداقية وتحديات النفوذ.

تواجه إيران، بكل ما تمثله من دولة، ثورة، مكانة، ودور، وضعًا بالغ الدقة والتعقيد، يثير القلق العميق. فالرد على الضربات الموجعة التي تلقتها وتتلقاها، سواء بشكل مباشر أو عبر حلفائها، من الكيان الإسرائيلي، قد ينطوي على تداعيات وخيمة وعواقب جسيمة تفوق قدرتها على الاحتمال. وفي المقابل، فإن اختيار الصمت وعدم الرد بالمثل سيؤدي حتمًا إلى تقويض مصداقيتها بشكل خطير أمام حلفائها وأنصارها، وسيهز صورتها الإقليمية والدولية، ويقلل من تأثيرها ونفوذها بشكل كبير.

الأمر الذي ألحق ضررًا بالغًا بسمعة إيران، يتمثل في التحليلات والتفسيرات التي قدمها العديد من المحللين والمراقبين، والتي تجاوزت مجرد الحديث عن التردد الإيراني أو العجز عن الرد على الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة. فقد ذهب البعض إلى الحديث عن وجود صفقة سرية بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة، تقوم بموجبها طهران بتقديم حزب الله كقربان لإسرائيل، والتخلي عنه في هذه الظروف الصعبة – والاكتفاء ببيانات باهتة لا تقدم ولا تؤخر – مقابل الحصول على حصة من النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، على أن يكون الكيان المحتل هو اللاعب الأقوى والأوحد في المنطقة، بينما تكتفي إيران بدور ثانوي.

وقد استند أصحاب هذه النظرية التآمرية إلى ما زعموا أنها معلومات دقيقة وحساسة وصلت إلى إسرائيل، مكنتها من توجيه ضربات قاصمة ودقيقة ضد القيادات العسكرية والسياسية لحزب الله، وصولًا إلى شخص الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، وإلى المواقع الإستراتيجية التابعة للحزب، كمخازن الصواريخ ومستودعات الأسلحة والذخيرة. بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، مشككين في أن الإجراءات الأمنية المشددة التي يتبعها حزب الله لا يمكن اختراقها بتلك السهولة التي رأيناها في قضية البياجر وغيرها، إلا إذا كانت هناك تطمينات إيرانية رفيعة المستوى.

يزداد حجم المشككين في الموقف الإيراني، وينضم إليهم أسماء إعلامية لمعت في العقد الأخير على شاشات القنوات الفضائية، وكانت تدافع بشراسة عن ما يسمى "محور المقاومة"، لتظهر الآن في مقابلات إعلامية وتتحدث بصراحة صادمة تشكك في الدور الإيراني، وتنتقد تصريحات المسؤولين الإيرانيين في هذا الشأن. بل إن تصريحات الرئيس الإيراني، خاصة تلك التي أدلى بها في نيويورك – وتحديدًا مغازلته للأميركيين – قبيل اغتيال هنية، قد زودت المشككين بذخيرة قوية.

كيف يمكن للمتابع والمراقب، ولأجيال كاملة تربت على الهتافات الإيرانية المنددة بأميركا، وعلى شعار "الموت لأمريكا" الذي أُطلق لعقود طويلة حتى وصل إلى شعائر الحج ومناسكه، أن تتقبل عبارات الإشادة بأميركا من أعلى مستوى في الرئاسة الإيرانية، في الوقت الذي تدك فيه الطائرات والقذائف أميركية الصنع أطفال غزة ولبنان، ويقدم الغطاء السياسي الكامل للصهاينة لارتكاب المجازر والانتهاكات بشكل مستمر؟

وبعيدًا عن التشكيك المتزايد في الموقف الإيراني، والذي اضطرت إيران لنفيه والرد عليه في قضية اغتيال إسماعيل هنية في طهران، وهو في حمايتها ورعايتها، فإن عدم الرد الإيراني على عملية الاغتيال، رغم التصريحات النارية والتهديدات والوعيد التي صدرت من طهران، اعتبره البعض بمثابة اعتراف إيراني بالدور الإسرائيلي المهيمن في المنطقة، وتراجع إيراني إلى الخلف بدافع الخوف والطمع: الخوف من القوة الإسرائيلية والأميركية، والطمع في الحفاظ على نفوذها في عواصم عربية وأجزاء أخرى من المنطقة.

وإذا كان عدم الرد على اغتيال هنية، على الرغم من التصريحات النارية التي أعقبت ذلك من شخصيات إيرانية بارزة، وعلى رأسهم المرشد الأعلى، يهز مصداقية إيران ويفتح الباب واسعًا للتشكيك في مواقفها، فإن ترك حزب الله وحده في الميدان يواجه إسرائيل – ووحشيتها ومذابحها في لبنان ضد حاضنته الشعبية – والدعم الأميركي الهائل لها، وبعد اغتيال حسن نصر الله الذي لم يكف عن الإعلان عن ولائه المطلق لإيران ونظام ولاية الفقيه، كل هذه الأمور سيكون لها تداعيات خطيرة وعواقب وخيمة على إيران دولة وثورة.

حتى التصريحات الإيرانية حول الأحداث التي جرت في لبنان وما تعرض له حليفها حزب الله – والتي بطبيعة الحال لا تعتبر كافية – شابها التناقض والغموض، فتارة تسمع أن حزب الله قادر على التصدي للعدوان، وتارة أخرى يقال إنه لا يستطيع الوقوف بمفرده ضد دولة يدعمها الغرب ويمدها بالسلاح بلا توقف.

تشهد المنطقة تحولات عميقة وإعادة تشكيل شاملة، وتواجه منعطفات حاسمة ومفترقات طرق حادة، وإيران تجد نفسها في قلب هذه التطورات. وقد أدركت طهران أن التزام الصمت والاكتفاء بالتصريحات والتهديدات اللفظية سيشجع إسرائيل على التمادي في ضرباتها وتجاوزاتها، وتصفية قادة الفصائل المسلحة التي تدور في فلكها، وسيهوي بمصداقيتها إلى الحضيض أمام حلفائها في الدول التي لها فيها نفوذ، وقد يدفعهم ذلك إلى التمرد عليها. لذلك، رأت إيران أن الفرصة مواتية – مع انشغال إسرائيل على جبهات متعددة – لشن رد مدروس يعيد إليها شيئًا من هيبتها، ويحافظ على مكانتها بين حلفائها وأنصارها.

بدأت محاولات الاعتذار الإيراني غير المباشر للأتباع والحلفاء بتصريح للرئيس الإيراني، زعم فيه أن الدول الغربية خدعت إيران بعد اغتيال هنية، عندما وعدت بوقف إطلاق النار على غزة مقابل عدم الانتقام لاستهداف القائد الفلسطيني على أراضيها وفي ضيافتها.

شنت طهران ضربة مفاجئة على إسرائيل، وأعلنت صراحة أنها استهدفت المنشآت العسكرية، وليس المدنية، في الكيان المحتل، وأنها سترد بقوة أكبر وتستهدف البنية التحتية إذا ردت إسرائيل على الضربات التي شنتها يوم الثلاثاء.

يفهم من ذلك أن إيران اعتبرت ضربتها كافية ومُرضية، وأنها لا تنوي التصعيد، وأن هدفها الأسمى لا يتجاوز الحفاظ على ماء الوجه.

الكرة الآن في الملعب الإسرائيلي. فإذا ردت إسرائيل، المنتشية بنصرها الظاهري، واستغلت قيادتها السياسية والعسكرية (وخاصة المتطرفين) الفرصة لاستهداف المواقع النووية الإيرانية، فإننا سنكون أمام كرة نار تتدحرج بسرعة وبطريقة يصعب التنبؤ بها. أما إذا مارست واشنطن وحلفاؤها ضغوطًا على إسرائيل للاكتفاء برد قاس على "محور المقاومة" من خلال استهداف الأطراف وليس القلب، مقابل الحصول على مكافآت عسكرية وسياسية، فقد نشهد احتواء للتصعيد. وستحاول الدولة العبرية تعويض الهزة النفسية والمعنوية التي تلقتها يوم الثلاثاء، عبر شن المزيد من الضربات الموجعة ضد حزب الله وحلفاء إيران في المنطقة، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة